بين الباعة الجائلين والشحّاذين (المُكدِين)!

البداية
أركب بين الحين والآخر الترام أو القطار (المتأرجح) -كما يحلو لي أن أسميه- وأستمتع به وهو يمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحِلُ، وتراه في اهتزازه متبخترًا تبختر الغادة الحسناء!
وتملأ الفرحة جنباتي وأنا أركب هذا القطار، وهو يسير بنا بعيدًا عن زحام المرور، وأرى غيري من أصحاب السيارات الفارهة يقتله الانتظار ويخنقه حر الشمس القاتل، ففي هذه اللحظة -فقط- أحمد الله أنْ منعني السيارة وإن كنت أشتهيها.
أقابل في هذا القطار وجوهًا مختلفة، وأصنافا متعددة من البشر تتغير وتتبدل كل مرة أركبه فيها غير صِنْفَين لا يفارقانه كأنهما اتخذاه مسكنًا، هما الباعة الجائلون والشحاذون أو المكدون -وهو ما يصدق على أغلبهم-
فلنبدأ بحكاية حال من ثنينا بذكره وهم المكدون الذين أصبحوا علامة من علامات المحروسة، لا يخلو منهم شارع ولا ميدان، تبصرهم عينك في كل مكانٍ وكأنهم يطاردونك ويلاحقونك، يستجدون عطفك بدعوات -في الغالب- جافة تريك من طرف اللسان حلاوةً حتى تغدق عليهم بجنيهٍ أو نصفه، فإن امتنعتَ فما تنال إلا السباب والشتائم -نعم، أنا أوقن بهذا وإن كنت لا أسمعه-.

ويذكرني هؤلاء الشحاذون بأصحاب الكدية أبطال مقامات الحريري، الذين نستمتع ونحن نقرأ قصصهم ونتعرف على حيلهم، وإن كانوا لا يبلغون شأوهم في الحيلة والمكر إلا في القليل النادر، فغالبهم قصصهم مكرورة معادة كـهذا الذي سُرقت نقوده ويحتاج ثمن تذكرة القطار، أو تلك المرأة التي تحمل طفلها الرضيع الباكي وتريد أن تشتري له علبة لبن (نيدو أو ريري -والبركة في ريري البركة في ريري-) لتطعم طفلها، وغير هذا كثير.
داخل القطار
نرجع إلى القطار الذي لا تخلو عربة من عرباته في مرة ركبته فيها من الشحاذين الذين يُلِحّون في الطلب مُظهرين المرض حينًا والعجز عن العمل -لمرض مقعدٍ- حينًا آخر، بل قد تجد أحدهم وقد بلغ من الكبر عتيًّا، واشتعل رأسه شيبا يمشي ويطوف على الناس من بكرة اليوم إلى عشيته دون كللٍ أو مللٍ، فيأتي بما لا يقدر على مثله بعض الشباب؛ إي والله فلتعجب معي!!
هذا حديث الصنف الأول ممن لا يخفى عليكم خبره ولا يقوى قلمي الكليل على الإحاطة بذكره؛ فلنضرب عنه صفحًا ونولّ وجهنا شطر الباعة الجائلين، وأفتتح حديثي عنهم بسؤال ينبئ عن خبرهم فأقول: هل وجدتَ يومًا (حافلة نقل عام، أوقطار أنفاق بمحطاته، أو شارعًا وميدانًا من الشوارع والميادين الرئيسة يخلو ساعةً من اليوم من باعة جائلين أو مقيمين)؟! أراك لا تنتظر جوابًا فالجواب نراه رأيَ العين كل يومٍ.
فن البيع لدى البائع المتجول
وأكثر ما يعجبني في بعض الباعة إبداعهم في اختيار ما يبيعون، وتفنن بعضهم في طريقة حمل البضائع المتنوعة بطريقة غريبة عجيبة! وإن كانوا لا يختلفون كثيرا عن غيرهم من الشحاذين في استخدام الحيلة والمخادعة لتسويق سلعهم.
في كثير من المرات التي أركب فيها القطار (المتأرجح) أرى فيه رجُلًا قد بلغ من السنّ الستين أو يزيد كأن كُلًّا منا يقصد الآخر لا يخطئني ولا أخطئه!
أراه حاملا ألوانًا متعددة من الخردوات بطريقة يأخذني منها العجب كُلّ مأخَذ، وأقضي فترة الركوب متأملا في طريقة ترتيبه وحمله لهذه البضائع؛ وإني أظن ظنًّا يكاد يبلغ اليقين أن عمّنا هذا في جعبته كلُّ شيء (من الإبرة إلى الصاروخ) فهو يبيع [ القصافات-والولاعات- والمِشاط- والخيوط، والإبر ...].
ثورة البائع المتجول
ركبت القطار ذات يومٍ وانتظرت صعود عمنا الستيني البائع -كما تعودنا معًا-، وقد كان؛ فرأيته بعد قليل صاعدا مُكْفَهِرَّ الوجه، قد بلغ الإجهاد منه مداه، وكأنه يحمل فوق ظهره هموم الدنيا، بدأ ينادي كعادته على بضاعته معرفًا بها؛ ولكنه -على غير ما تعودت منه- أخذ يزعق في الركاب لائما لهم على عدم شرائهم منه قائلًا -وأحكي ما قال بلغته-( مفيش حد عاوز يشتري خالص كده، أنا مش هاخد فلوس وخلاص انتوا هتشتروا بيها حاجة، ولا هيَّ بتحلى للشحّات) دُهشت من المقول ومن طريقته فيما يقول؛ ولكني بعد تأمل وجدت غضبته منطقية -على الأقل من وجهة نظره- ، فهو يرى الشحاذ يركب القطار وما هي إلا دقائق معدودة وينزل منه وقد امتلأ جيبه بالنقود المعدنية يسمع صوتها بأذنه وإن لم ترها عينه، بينما هو يحمل بضاعة تثقل كاهله، ليحصِّلَ بها ما يسد رمقه ويقضي بها حاجة مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الأهلين؛ محافظًا -في ذات الوقت- على ماء وجهه؛ ومع هذا لا يُحصِّل شيئًا ذا بالٍ مما يحصله الشحاذون.
فيبدو أن عمّنا هذا بعد أن أصابه النصب من كثرة التنقل بين القطارات وأثقلت كاهله أعباء الحياة وهمومها؛ وهو لا يكاد يظفر بما يوفر له مطالبه الأساسية، بينما يرى هؤلاء المحتالين يستخرجون النقود من جيوب الناس وكأنهم سحرة يسلبون الألباب والعقول قبل الفلوس = قال قولته هذه معبّرًا بها عن حنقه وغضبه من هؤلاء الركاب المهابيل -في رأيه-.
أَيَحْسُد الباعةُ الجائلون الشحاذين، وكانت كلمات هذا البائع تعبيرا عن مكنون نفسه من الغل والحسد، أم ماذا ؟؟
وقصص المحتالين والشحاذين (المكدين) في زماننا تستحق مقاماتٍ خاصّة!! ولنسمها -مثلًا- مقامات المحروسة.

إبراهيم قتة

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال