الصديق يوسف.. وذاتية العمل
الصالح
قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} ( يوسف: 111)
تميز الصديق يوسف – عليه السلام – في ذاتية العمل الصالح
سواء فيما يتعلق بينه وبين الله تعالى، أو بينه وبين الخلق، ومن ذلك ما يأتي:
(1)
سرعة اللجوء إلى الله، والاعتصام به، والاحتماء به عندما
راودته امرأة العزيز: قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف:
23)
(2)
إيثار السجن على معصية الله: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ . فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ
كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (يوسف:
33 ، 34 )
معنى الآية: قَالَ : يَا رَبِّ ، السِّجْنُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الاسْتِجَابَةِ
إِلَى مَا يَطْلُبْنَهُ مِنِّي مِنْ فِعِلِ الفَاحِشَةِ ، وَإِنْ وَكَّلْتَنِي يَا
رَبُّ إِلَى نَفْسِي فَلَيْسَ لِي مِنْهَا قُدْرَةٌ ، وَلاَ أَمْلِكُ لَهَا ضُرّاً
وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ بِحَوْلِكِ وَقُوَّتِكَ ، فَإِنْ لَمْ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
، وَتَعْصِمُنِي مِنَ الفَاحِشَةِ ، أَسْتَجِبْ لَهُنَّ ، وَأَكُنْ بِذَلِكَ مِنَ الجَّاهِلِينَ
الذِي تَسْتَخِفُّهُمُ الشَّهَوَاتُ ، فَيَجْنَحُونَ إِلَى ارْتِكَابِ المُوبِقَاتِ
، وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ.([1])
وهكذا نجد بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به يوسف من
المكارم المادية بالإقامة في قصر عزيز مصر، والمعنوية من النبوة أو العلم والحكمة،
ذكر هنا محنته مع امرأة العزيز، والتزامه العفة والنزاهة والطهارة، حتى إنه آثر
دخول السجن على ارتكاب الفاحشة، والتخلص من افتتان النساء به.
(3)
السمت الصالح: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الآية. . وفي
الحديث: (السَّمْتُ الصَّالِحُ، وَالْهَدْيُ الصَّالِحُ، وَالِاقْتِصَادُ
جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)([2]).
(4)
التوحيد الخالص :{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} والعمل الصالح
أساسه التوحيد، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (
الكهف: 110)
(5)
الشكر لله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (يوسف:
38)
(6)
صناعة المعروف وتقديم النصيحة: { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ
يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ . ثُمَّ يَأْتِي
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (يوسف:
47 : 49) فاصنع المعروف أخي
المسلم في أهله وفي غير أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت من أهله. مستشفى العقلاء
(7)
الحرص على المصلحة العامة:{
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } (
الآية: 55 ) ومن الآية
نتعلم وجوب تقديم ذوي الأمانة والكفاءة لتولي المسئوليات والأمانات العامة.
(8)
العفو والتسامح: { قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (
الآية: 92) أي: لا
لوم عليكم اليوم، ولا تأنيب، ولكم عندى الصفح الجميل لحرمة النسب وحق الأخوة ، وأدعوا
اللَّه لكم بالعفو والغفران ، وهو صاحب الرحمة العظمى ([3]) . ومن الآية نعلم : فضل الصفح والعفو وترك عتاب القريب
إذا أساء ([4])،
وبنفس المنهج تعامل رسولنا الحبيب – صلى الله عليه وسلم – مع قريش عند فتح مكة
" يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا؛ أخ كريم وابن أخ كريم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم اقول لكم ما قال أخي يوسف من قبل: {لاَ
تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] اذهبوا فأنتم الطلقاء". ([5])
(9)
صلة الرحم : { اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي
يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } (يوسف:93) أي : ولما سألهم عن أبيه أخبروه بذهاب بصره من البكاء عليه،
فقال لهم: عودوا إلى أبيكم ومعكم قميصي هذا فاطرحوه على وجه أبي يَعُدْ إليه بصره،
ثم أحضروا إليَّ جميع أهلكم([6]).
ويصل رحمه – عليه السلام – بلغ ما حدث من إخوته - وهذا
الخلق الحسن يذكرنا بأحاديث – الحبيب – صلى الله عليه وسلم – في صلة الرحم، ومنها:
عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النبي - صلي
الله عليه وسلم -: ( ليس
الواصل بالمكافئ ولكن الواصل مَنْ إذا قطِعَتْ رَحِمه وَصَلَها)([7]) (أي
:ليس الواصل بالمكافئ) أي إن الذي يصل غيره مكافأة له على ما قدم من صلة مقابلة له
بمثل ما فعل ليس بواصل حقيقة لأن صلته نوع معاوضة ومبادلة. (إذا قطعت رحمه وصلها)
إذا قاطعه غيره قابله بالصلة].
إكرام الوالدين وتوقيرهما: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } (يوسف:
100)
أي: وأجْلَسَ أباه وأمه على سرير ملكه بجانبه; إكرامًا لهما([8])،
ولقد جاءت الوصية بالإحسان إلى الوالدين، وإكرامهما في أكثر من موضع من مواضع
القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
(الإسراء: 23 : 24) وغير ذلك مما ورد في قصة الصديق يوسف – عليه السلام- من
أعمال صالحة. مستشفى العقلاء
([1])
أيسر التفاسير - أسعد حومد – ج : 1 ، ص : 1630 .
([2])
الضياء اللامع من صحيح الكتب الستة وصحيح الجامع-
حديث ابن عباس في صحيح أبي داود
([3])
تفسير المنتخب – مرجع سابق – ج 1 – ص : 348.
([4])
أيسر التفاسير- أبو بكر الجزائري- مرجع سابق-
ج : 2 – ص : 644 .
([5])
السيرة النبوية - دروس وعبر- مصطفى بن حسني السباعي (المتوفى: 1384هـ)- المكتب
الإسلامي- الطبعة: الثالثة، 1405 هـ - 1985 م
([6])
التفسير الميسر – مرجع سابق- ج1 – ص : 246 .
([7])
مسند أحمد - حكم الألباني - (صحيح) انظر حديث رقم: 5385 في صحيح الجامع
([8])
التفسير الميسر- مرجع سابق – ج 1 – ص : 247.