حق الله تعالى وحقوق العباد

حق الله تعالى وحقوق العباد
قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} ( النساء: 36)
المعنى الإجمالي:  "واعبدوا الله - وحده - ولا تجعلوا معه شريكاً في الألوهية والعبادة، وأحسنوا إلى الوالدين إحساناً لا تقصير فيه، وإلى أقربائكم وإلى اليتامى، والذين افتقروا بسبب عجزهم أو ذهاب الكوارث بأموالهم، وبالجار القريب النسب والجار الأجنبي، والرفيق لك في عمل أو طريق أو جلوس، والمسافر المحتاج الذى لا قرار له في بلد معين، وبما ملكتم من الأرقاء فتيانا وفتيات. إن الله لا يحب من كان متعالياً على الناس، لا تأخذه بهم رحمة، كثير التمدح بنفسه" ([1])
حقيقة العبادة:
العبادة الخالصة لله - تعالى - هي حقه - سبحانه - علينا ، فهو الذى خلقنا وهو الذى رزقنا وهو المتفضل علينا في جميع الحالات. قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ( الفاتحة: 5) أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نطلب المعونة إلا منك ([2])
عن معاذ بن جبل قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار يقال له عفيرة . فقال : يا معاذ هل تدرى ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال : فان حق الله على العبادة ان يبعدوه ولا يشركوا به شيئًا . وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا . فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا" ([3]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: الْعِبَادَة هِيَ اسْم جَامع لكل مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْأَقْوَال والأعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة. فَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَصدق الحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وبرّ الْوَالِدين وصلَة الْأَرْحَام وَالْوَفَاء بالعهود وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد للْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَان للْجَار واليتيم والمسكين وَابْن السَّبِيل والمملوك من الْآدَمِيّين والبهائم وَالدُّعَاء وَالذكر وَالْقِرَاءَة وأمثال ذَلِك من الْعِبَادَة ، وَكَذَلِكَ حب الله وَرَسُوله وخشية الله والإنابة إِلَيْهِ وإخلاص الدَّين لَهُ وَالصَّبْر لحكمه وَالشُّكْر لنعمه وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ والتوكل عَلَيْهِ والرجاء لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْف من عَذَابه وأمثال ذَلِك هِيَ من الْعِبَادَة لله. وَذَلِكَ أَن الْعِبَادَة لله هِيَ الْغَايَة المحبوبة لَهُ والمرضية لَهُ الَّتِي خَلق الْخلق لَهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} ( 56 الذاريات). وَبهَا أرسل جَمِيع الرُّسُل كَمَا قَالَ نوح لِقَوْمِهِ:{اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره} (59 الْأَعْرَاف) ( [4])
النهي عن الشرك: والنهي عن الشرك يشمل الإشراك بالله في أي شيء أو أي حال، ولذا قال تعالى (وَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْئًا)، أي شيء وعلى أي نحو كان، سواء أكان شركًا ظاهرًا أم كان شركًا خفيًا ، وعطف النهى عن الشرك على الأمر بالعبادة لله - تعالى - من باب عطف الخاص على العام، لأن الإِشراك ضد التوحيد فيفهم من النهى عن الإِشراك الأمر بالتوحيد.
البر بالناس من أقوى علامات قوة الإيمان وحسن العبادة
أولا: الوالدين وذي القربى: جاء الأمر بالإِحسان إلى الوالدين عقب الأمر بتوحيد الله ، لأن أحق الناس بالاحترام والطاعة بعد الله - عز وجل - هما الوالدان؛ لأنهما هما السبب المباشر فى وجود الإِنسان . ومن حقوقها بعد الممات ما جاء عن رجل من بنى سلمة أنه جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله هل بقى على من بر أبوى شئ أبرهما به بعد موتهما؟ قال : نعم . الصلاة عليهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما" ([5]). والإحسان إلى ذي القربى من هذا الصنف، فعلى القريب أن يحسن بقريبه، بسد حاجته، ويكرم صحبته، ويصله ولو قاطعه، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة" ([6])، ويكون في عونه دائمًا في دفع الملمات، والمواساة في الشدائد.
ثانيًا: أمر - سبحانه - اليتامى والمساكين:
"والإحسان باليتيم"، يكون بإيوائه، والعطف الذي يقوم مقام عطف أبيه، وسد حاجاته، والاختلاط به بالرحمة، فيجعله مع أولاده مختلطًا بهم، مؤتنسًا معهم، ويسوّي بينهم وبينه، لكي ينشأ أليفًا مألوفًا مع المجتمع الذي يعيش فيه، وقد ورد في الأثر: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه" ([7] وإن قهر اليتيم وإذلاله ينشئه نافرًا شاذًا، فيكون عدوًا للجماعة لَا يألفها، ويكون منه الإجرام، والإيذاء، وقد قال الله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ). "والمساكين" هم الفقراء والذين لَا طاقة لهم على عمل، لمرض مزمن أو شيخوخة فانية، أو آفة في جسمهم تجعلهم غير قادرين، أو تعطُّل لَا يجدون معه عملا يعملون، والإحسان بهم سد حاجاتهم، وكفالة الراحة لهم.
عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه أَنَّه قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" ([8]) ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ)، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ يَعْنِي: السَّبَّابَةَ وَالوُسْطَى)([9]) عن أبي هريرة قال: قال النبي - عليه الصلاة والسلام :( الساعي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ، الصَّائِمِ النَّهَارَ)([10])
ثالثًا: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) :
(وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) هو الجار الذي يتصل بالإنسان بصلة الرحم والقرابة، وهذا له مع حق الجوار حق الرحم، فقد ثبت له الإحسان من ناحيتين: إحداهما: من ناحية القرابة، فهو داخل في ذي القربى، والثانية: الجوار
(وَالْجَارِ الْجُنُبِ) هو الجار الذي يكون مسكنه أو متجره، أو مزرعته بجنبك، والإحسان إليه بألا يكون منه أذى له بأي نوع من أنواع الأذى، ثم من الإحسان به مواساته في شدائده، ومعاونته في حاجاته، وأن يحفظ سره، ولا يكشف عورته، ولا يعلن منه ما يخفى على الناس. ومن الإحسان إليه أن يهدي إليه ما يعجز عن شرائه لأولاده من حلوى وفاكهة ونحو ذلك. وإن الإحسان إلى الجار هو الأمر الذي يدعو إليه التآلف الإسلامي في المجتمعات الصغيرة، وقد أكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحث على الإحسان بالجار، عن عائِشَةَ رضي اللهُ عنها عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ؛ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُوَرِّثُهُ).([11]) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ".([12])
(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو الصاحب الذي يكون بجنبك في عمل أو سفر، أو طريق، أو مركب(وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المنقطع عن أهله ولا مال له، فكأن الطريق تبناه، والإحسان إليه بإيوائه وإطعامه وتسهيل الحياة له حتى يعود إلى أهله. وقد أوجب الإسلام إعداد مأوى لهؤلاء من بيت مال الزكاة، وإمدادهم بالطعام والكساء حتى يثوبوا إلى أهلهم. ([13])
الوصية بملك اليمين والخدم
عَنِ المَعْرُورِ قالَ: رَأَيتُ [أَبا ذرّ بالربذةِ ] عَلَيْهِ بُرْداً، وَعَلى غُلامِهِ بُرْداً، فَقُلْتُ: لَوْ أَخَذْتَ هذا فَلَبِسْتَهُ كانَتْ حُلَّةً، وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْبًا آخَر، (وفي روايةٍ: حُلَّةً، وعلى غلامِه حلةً، فسألته عن ذلك؟) فَقالَ: كانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ (وفي روايةٍ: سابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّه)، وَكَانَتْ أمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَنِلْتُ مِنْها، فَذَكَرَنِي (وفي روايةٍ: فشكاني) إِلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ لِي: "أَسابَبْتَ فُلاناً؟ ". فَقُلْتُ: نَعَمْ. قالَ:"أَفَنِلْتَ مِنْ (وفي روايةٍ: أعَيَّرْتَهُ بـ) أُمِّهِ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قالَ: "إِنكَ امرُؤٌ فيكَ جاهِلِيَّةٌ". قُلْتُ على حِينِ سَاعَتِي: هذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ؟ قالَ: "نَعَمْ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمنْ جَعَلَ اللهُ أخاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَليُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا يُكَلِّفْهُ مِنَ العَمَلِ ما يَغْلِبُهُ، فإِن كَلَّفَهُ ما يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْه"([14] ) (إخوانكم) أي في الإسلام أو من جهة أولاد آدم فهو على سبيل المجاز (خولكم) قال القاضي: أي خدمكم وعبيدكم الذين يتخولون أموركم، أي: يصلحون أموركم.
دروس مستفادة من الحديث 
النهي عن سب العبيد وتعييرهم بوالديهم، والحث على الإحسان إليهم والرفق بهم كما نهى عن الفخر بالآباء، ويلحق بالعبد من في معناه من أجير وخادم وضعيف، كذا الدواب، وعدم الترفع على المسلم وإن كان عبدًا ونحوه من الضعفة، لأن الله تعالى قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) وقد تظاهرت الأدلة على الأمر باللطف بالضعفة، وخفض الجناح لهم، وعلى النهي عن احتقارهم والترفع عليهم، استحباب الإطعام مما يأكل والإلباس مما يلبس، وفيه منع تكليفه من العمل ما لا يطيق أصلاً، فيه المحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيه جواز إطلاق الأخ على الرقيق. ( [15])
من هداية الآية الكريمة
1-              تقرير عشرة حقوق والأمر بأدائها فورًا وهي عبادة الله وحده والإحسان بالوالدين، وإلى كل المذكورين.
2-              العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"
3- وبتنفيذ هذه الوصايا السامية تسعد الإِنسانية، وتنال ما تصبوا إليه من رقى واستقرار.
4 -  الله تعالى لا يحب كل مختال فخور، وفي الحديث: قال – عليه الصلاة والسلام – (بينما رجل يتبختر في بردين، وفد أعْجِبَتْه نَفْسُه، خسف الله به الأرْض، فهو يتجْلجَل فيها إلى يَوْم القِيِامَةِ)([16])
5- يجب تنفيذ كل هذه الواجبات الشرعية بنية العبادة لله تعالى: قال ابن عبَّاس: "وَحِّدوُهُ ، واعلم أن العِبَادة عبارةٌ عن كل عَمَل يُؤْتَى به لمجَرَّد أمْر الله - تعالى – بذلك" ([17])
دروس في العمل الصالح - بتصريف –




([1]) تفسير المنتخب– مرجع سابق. – ج1 – ص : 114
([2]) تفسير المنتخب مرجع سابق. –  ج 1 ، ص 1
([3]) البخاري في صحيحه ج 3/  ص 1049 حديث رقم: 2701
([4]) العبودية – ابن تيمية – ج 1 – ص : 44 - المكتب الإسلامي – بيروت- الطبعة السابعة المجددة 1426هـ - 2005م
([5])ابن ماجه في سننه ج 2/  ص 1209 حديث رقم: 3664
([6]) أخرجه البخاري: الأدب - ليس الواصل بالمكافئ (5991)
([7]) رواه ابن ماجه في الأدب - حق اليتيم (3679) مرفوعًا
([8])البخاري في الأدب المفرد ج 1/  ص 34 حديث رقم: 57
([9]) الترمذي - أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  - باب ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته – رقم /1918 - [حكم الألباني] : صحيح
([10])البخاري في صحيحه ج 5/  ص 2047 حديث رقم: 5038
([11]) مسلم في صحيحه ج 4/  ص 2025 حديث رقم: 2625
([12]) الترمذى -   صحيح ، الصحيحة ( 1030 ) ، المشكاة ( 4987 )
([13]) زهرة التفاسير- أبو زهرة – ج 3 – ص : 1677 – مرجع سابق.
(([14] مُخْتَصَر صَحِيحُ الإِمَامِ البُخَارِي -  ج 4 - كتاب الأدب -  باب مَا يُنْهَى مِنَ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ – ص  75 – رقم / 2341.    
([15]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري – مرجع سابق.
([16])الطبراني في معجمه الأوسط ج 7/  ص 357 حديث رقم: 7720
([17])تفسير اللباب في علوم الكتابج 6 – ص : 369.

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال