الخلاص من تكالب الأمم

عن ثوبان- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"توشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها".. قال: قلنا يارسول الله.. من قلة بنا يومئذ؟ قال: "أنتم يومئذ كثير.. ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، يُنزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن" قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: "حب الحياة وكراهية الموت".
معاني
"يوشك" يقرب.. والقرب في كل شيء بحسبه، فهو في عمر الأمم أطول بكثير منه في عمر الشخص.. وهكذا.
"أن تداعى عليكم الأمم" أي تدعو الأمم بعضها بعضاً ليجتمعوا عليكم، يريدون كسر شوكتكم، والغلبة عليكم، وسلب ما في أيديكم من الأموال والديار.
"الأمم" جمع أمة، والمراد: فرق الكفر، والأمم الضالة من اليهود والنصارى وغيرهم.
"من كل أفق" أي من كل ناحية، يأتون إليكم ويتخطفونكم من كل جهة من جهات بلادكم، أو يتخطفونكم من كل ناحية من نواحي الحياة، فيتحكمون في طعامكم وسلاحكم، ويسيرون كل شيء من شئونكم كم يحبون.. لمصالحهم لا لمصالحكم.
"كما تداعى الأكلة على قصعتها" "الأكلة" جمع آكل مثل طلبة جمع طالب، والمراد أن أمم الكفر والضلال يدعون بعضهم بعضاً على قصعة طعامهم.
و "الأكلة" يحصلون على طعامهم من القصعة بكل سهولة، فكذلك الأمم الأخرى تأخذ ما في أيديكم بسهولة ويسر، ولا قوة لكم تردهم، ولا بأس لكم يصدهم.
"أمن قلة بنا يومئذ" سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب تداعي الأمم علينا، واجتماعهم لأخذ ما في أيدينا، وهل سبب ذلك قلة عددنا في هذا الوقت؟
"أنتم يومئذ كثير" أي إن تداعي الأمم عليكم ليس لقلة عددكم فأنتم يومئذ كثيرون.
"ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل" أبان صلى الله عليه وسلم لهم السر في اجتماع الأمم عليهم، وهو أنهم يكونون غثاء كغثاء السيل، والغثاء: ما يكون في القناة وهي جافة من نباتات يابسة، وأشياء بالية يأتي السيل فيحمل هذه الأشياء ويلقيها في جوانب مجراه.. والمراد: أن الأمم تكون كغثاء السيل، لقلة شجاعتهم، وضعف شأنهم، فكما أن غثاء السيل لا قيمة له، فكذلك الأمة، وكما أن غثاء السيل لا يملك لنفسه شيئاً، وإنما يحمله الماء حسب اتجاهه فكذلك هذه الأمة، يسيّر أعداؤها أمورها، ولا تستطيع أن تتحكم في شئونها.
"ينزع المهابة من قلوب عدوكم" في رواية أخرى" ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم": أي أن الله عز وجل يخرج من صدور عدوكم الخوف والرعب منكم.
"ويجعل في قلوبكم الوهن" أي الضعف، والخوف من الأعداء.
"قلنا: وما الوهن؟" لم يكن السائل جاهلاً معنى كلمة "الوهن" وأن معناها الضعف، وإنما سأل عن سبب هذا الضعف، وأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الفهم.
"حب الحياة وكراهية الموت" جاء في رواية "حب الدنيا" وفي حديث آخر "وكراهية القتال" أي أن سبب ضعفكم هو حبكم الأغراض الدنيوية- من المال واكتنازه والشهوات وإشباعها- وكراهيتكم الجهاد في سبيل الله تعالى.
المعنى العام
الكثير من آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد نصر الله تعالى لأمة الإسلام.. يقول الله تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47) ويقول سبحانه: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال:12).
ويقول سبحانه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) (الحج:40-41).
وهكذا النصر للذين ينصرون دين الله ولا يزيدهم النصر إلاّ اعتزازاً بدين الله وتمسكاً به.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس".
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ولقد أعطاني ربي عز وجل ولا فخر، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأنا أمشي حياً صحيحاً، وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر فهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً، وأعطاني أني أول الأنبياء أدخل الجنة، وطيب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل عليها من حرج".
تفيد هذه الآيات والأحاديث أن نصر الله إنما هو للمؤمنين وهو لهم إلى قيام الساعة، ما داموا على الحق، وما داموا على الكتاب والسنة.. أما من ضيع وخالف الكتاب والسنة فهذا الذي يتناوله هذا الحديث.. إنه يبين أن مشكلة الأمة في عالم النصر أمران: الأول: حب الدنيا، والثاني: كراهية الجهاد في سبيل الله تعالى.
والأمران متلازمان، فمن أحب الدنيا كره الجهاد.
هذان الأمران يذهبان النصر عن الأمة، ويخرجانها من دائرة العناية الإلهية، والوعد بالنصر، والتمكين في الأرض.
إنه صلى الله عليه وسلم يبين للأمة داء إن هو أصابها ضيع مكانتها بين الأمم، وبعبارة غاية في الإيجاز، وبجوامع الكلم يشخص صلى الله عليه وسلم الداء، ويصف الدواء.. إن الداء حب الدنيا، وكراهية الجهاد، هو الإقبال على الماديات، وتفضيلها على الخلق والدين.. أما الدواء فهو العودة إلى الدين، وإلى حفظه ونصرته.
يقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).
أي إن كانت هذه الأشياء من المشتهيات الدنيوية أحب إليكم من طاعة الله ورسوله، وأحب إليكم من الجهاد في سبيل الله، فانتظروا نزول العقاب العاجل أو الآجل بكم وأنتم بهذه المخالفة فاسقون، خارجون عن الطاعة، مجانبون الاستقامة.
ويقول سبحانه وتعالى حاثّاً على الجود بالمال والنفس في سبيل نصرة الإسلام، ومحذراً من البخل وحب الدنيا، مبيناً أن البخل وحب الدنيا مهلِكة للأمة، ومضيعة لعزتها وكرامتها، ويقول سبحانه في ذلك: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195). أي جودوا بكل ما تملكون في سبيل نصرة دين الله، ولا تعرضوا أنفسكم للهلاك بترك الجهاد، فترك الجهاد مضيعة أي مضيعة، فإنه يترك الضلال ينتشر في الأرض؛ مما يضيع رسالتكم وأنتم بالأصالة حماة الحق، وأهل الدين الخاتم، فعليكم نصرة الحق بكل ما تملكون، وبكل ما تستطيعون.
وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: "لئن تركتم الجهاد، وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا على ما كنتم عليه".
إن هذه الآيات من القرآن الكريم، وهذه الأحاديث من السنة النبوية كلها تبين طريق العزة، وأنه التمسك بدين الله، ونصرة الحق ورفع راية الجهاد، وتبين أيضاً أن الأمة إذا آثرت الدنيا وأقبلت على الشهوات فإنما تكون قد سارت في طريق الذل وسيجتمع عليها أعداؤها يذيقونها الذل والهوان، ولن تخرج من ذلك إلاّ بالعودة إلى الإسلام وبالتمسك بالكتاب والسنة.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا يارب العالمين، واجعلنا اللهم بكتابك عاملين، وبرسولك مقتدين.
وصلِّ الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، والحمد الله رب العالمين.

د. عبد المهدي عبد القادر - أستاذ الحديث بجامعة الأزهر –

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال