مراحل التعامل مع القرآن

التعامل مع النص القرآني: قراءة، فهم، تذوق
أرى أن التعامل مع تلاوة القرآن الكريم من الأفضل أن يتم على مراحل ثلاث، هي:
قراءة النص (الآيات)- فهم النص- تذوق النص
(1)
فكثير ممن يقرأون القرآن الكريم لا يتجاوزون المرحلة الأولى، من حيث قراءة النص القرآني الكريم مجرد قراءة، دون فهم أو بفهم لبعض معاني الكلمات الواردة في الآيات، وعدم فهم البعض الآخر. (مستشفى العقلاء)
وقليل من هؤلاء من يحاولون البحث عن معاني الكلمات والألفاظ والعودة إلى أسباب النزول لفهم معاني المفردات والملابسات التاريخية لنزول الآية.
وهناك القليل يفوزون بالتمتع بحلاوة وطلاوة النص القرآني ممن يعرفون: لمَ عبَّر اللهٌ عن المعنى الفلاني، في الآية المقروءة بكذا ولم يقل كذا.
(2)
وسأعطيك مثالا يوضح المراد من هذه الطرق الثلاث وكيفية التوازي بينها جميعا: (مستشفى العقلاء)
 قد نقرأ ضمن وِردنا لقراءة القرآن الكريم قولَه تعالى في سورة الإنعام: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) من دون أن نتوقف أمام المعاني التي يشملها هذا الجزء من الآية – على سبيل المثال-  خصوصا في قراءتنا القرآنية الرمضانية، والتي يعتمد فيها الكثيرون على العدّ والإحصاء للختمات، هذه طريقة للقرءاة يمكن أن نطلق عليه القراءة الإحصائية.
وقد نقرأ الآية السابقة (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) لكن هذه المرة نقف عند معاني بعض الألفاظ الواردة فيها: (مستشفى العقلاء)
- كيف يقتل المرء أولاده؟!
- ما معنى كلمة (إملاق)؟
وتعد هذه الطريقة أعلى من الأولى لعدم اكتفائنا بمجرد القراءة فقط، وإنما تعدي ذلك إلى التفكير في معاني بعض الألفاظ، ويمكن أن نطلق على هذه القرءة التفكرية.
وقد نقرأ الآية نفسها (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)
(3)
فالقراءة يتبعها الفهم لبعض المعاني، ثم تأتي مرحلة أخرى هي عبارة عن أسئلة لا تقف عند مجرد معاني الألفاظ وإنما تتعدى إلى أسئلة أعلى من شاكلة:
-  لمَ قال الله تعالى (من إملاق) مع أنه في الآية المشابهة لها من سورة الإسراء يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)؟ (مستشفى العقلاء)
ثم لماذا قال في آية الأنعام: (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) بينما قال في آية سورة الإسراء: (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)؟
وتصل إلى الإجابة: أن آية الأنعام الله عز وجل ينهي قوما (فقراء بالفعل) عن أن يقتلوا أولادهم بسبب هذا الفقر الذي يعيشونه، وفي هذه الحالة فالسؤال هو:
هل ما يهم هؤلاء القوم هم وفقرهم المدقع الذي يعيشون فيه، أم يهمهم ألا يكون أبناؤهم في المستقبل فقراء مثلهم؟ ما يهمهم الآن هم أنفسهم، بدليل أنهم يقتلون الأبناء لأجل الفقر. (مستشفى العقلاء)
وفي هذه الحالة الأولى أن يطمئنهم الله عز وجل على أنهم إذا لم يقتلوا أبناءهم فهو الضامن لهم حياة كريمة، أقول:
الأوْلَى أن يطمئنهم على أنفسهم أم على مستقبل أبنائهم؟
الأولى أن يطمئنوا على أنفسهم أولا ثم على مستقبل أبنائهم.
ولذا قدمهم الله عز وجل في قوله (نحن نرزقكم) فاطمئنوا على أنفسكم، و(وإياهم) ثم اطمئنوا على رزقهم أيضا.
(4)
أما آية الإسراء فإن القوم الذين يخاطبهم الله عز وجل فقراء أم ليسوا كذلك؟
هم ليسوا فقراء، ولكنهم قد يقتلون أبناءهم لأنهم يخشون عليهم من الفقر.
إذا في هذه الحالة: هل يطمئنهم الله على أنفسهم أولا أم على أبنائهم؟ (مستشفى العقلاء)
المفترض أنهم لا يخافون على أنفسهم الآن لأنهم ليسوا فقراء، ولكن ما يهمهم مستقبل الأبناء؛ ولذا بدأ الله عز وجل بطمأنتهم على أبنائهم (نحن نرزقهم)ولا تخافوا على أنفسكم أنتم أيضا وإياكم(.
إذًا فالله عز وجل خاطب كل قوم بما يخافون عليه أولا، في الحالة الأولى على أنفسهم لأنهم فقراء بالفعل لقوله (من إملاق) الفقر موجود، وفي الحالة الثانية على أبنائهم؛ لأنهم ليسوا فقراء ولكنهم يخافون من الفقر (خشية إملاق) أي أن الفقر ليس موجودا الآن ولكنه يُخشى منه.
(5)
وتخيل لو أن الخطاب تم عكسه، هل سيكون مؤثرا:
أمامك إنسان يغرق، تخبره بأنك ستنجيه أولا أم أنك ستعطيه مشروبا ساخنا؟
الحالة تفرض عليه أن يطمئنه على نجاته أولا ثم يأتي ما يأتي بعد ذلك. (مستشفى العقلاء)
ولو طمأنته على المشروب قبل النجاة، لكان كلامك عبثا؛ لأنه ليس موافقا للحالة التي يعيشها، هكذا سياق الآيتين ولله المثل الأعلى، سبحانه.
كما هو واضح فإن هذه الطريقة التي قرأنا بها النص القرآني لا تتوقف عند مجرد القراءة العادية ولا عند القرءة المصحوبة ببيان بعض معاني الألفاظ، وإنما تتعدى هذا كله إلى تذوق النص القرآني بما يحمل من أسرار وبدائع حملت العرب –من أسلم منهم ومن لم يدخل في الإسلام- على الوقوف أمام هذا النص بإكبار وإجلال منقطعيْ النظير بالنسبة لنص نُظم باللغة العربية، ثم بالنسبة لقوم هم أرباب اللغة وأساطينها، فهي بحق بضاعتهم الرائجة، وتجارتهم الرابحة.
(6)
أكاد أجزم بأن الأمر الوارد من الله تعالى لنا بقراءة كتاب الله لا يُقصد به الطريقة الأولى فقط ولا الثانية معها وإنما الوصول إلى هذه المرحلة الثالثة التي تجعلنا نكرر كلمة أحد المشركين وهو الوليد بن المغيرة حينما سمع القرآن فقال: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة..إلخ. (مستشفى العقلاء)
إلى المرحلة التي نقول فيها من أعماق قلوبنا بعد اجتيازها: الله.. الله..الله.
أكاد أجزم أن هذه المرحلة الثالثة - والتي لا تنفك بالضرورة عن المرحلتين الأوليين - هي الهدف الأسمى والغاية الأعلى لقارئي القرآن المجيد.
حقا .... إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو وما يعلا عليه و إنه ليحطم ما تحته ...(مستشفى العقلاء)
وصدق الله العظيم حين قال {كتاب انزلناه ليك مبارك ليدبروا اياته وليتذكر اولوا الالباب(

 د.عصام فاروق - مستشفى العقلاء

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال