لا مستقبل ما لم يتصل الحاضر بالذاكرة التاريخية؟

المتأمل فى منظومة الزمن، وطبيعة التفاعل بين الإنسـان ومعطيات الزمان والمكان، قد يصل إلى أمر يبدو غريبا لأول وهلة، قوامه أن التنبؤ بالمستقبل يتوقف فى المقام الأول على القـدرة على التذكر، بتعبير آخـر فإن الحاضر هو نتيجة قـرارات المـاضي، ومن حقائـق الحاضر يتحدد المستقبل.

وهذه الحقيقة تسرى فى نسيج القرآن الكريم كله، حيث يستطيع الإنسان أن يحدد إمكانية الفلاح فى الدنيا والآخرة، بما يفعله فى دنيا الواقع إذ هناك علاقة وثيقة بين الذاكرة وقراءة المستقبل ولذا ركز القرآن على أهمية التذكر حتى لا يدخل المرء فى دائرة النسيان والضياع ومن هنا كان القرآن تذكرة لمن يخشى وكان خطاب الله لنبيه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } (الغاشية:21)، ومن نسى ما ذكر به كانت نهايته كمن قال الله فيه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام:44) وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف:165).
والنسيان إن لم يعقبه التذكر كان مصير صاحبه كهؤلاء.. أما إذا كان طارئا وسرعان ما تنبه صاحبه فإن ذلك ليس مطعنا فى تقوى الإنسان ولا فى اصطفائه فطبيعة الإنسان أن ينسى وسبحان من قال عن نفسه: (وما كان ربك نسيا).
فآدم قد نسى وعصى ربه لكنه تاب واستغفر فتلقاه ربه برحمته وعفوه ورضوانه إذ لم يكن معرضا عن أمر الله إنما كان مخدوعا بحيل إبليس اللعين حين قاسمهما إنى لكما لمن الناصحين، وسيدنا موسى مع العبد الصالح بالرغم من معرفته بأن هذا العبد قال الله عنه: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف:65) - نسى الشرط الذى رضى هذا العبد على أساسه أن يتبعه وهو {فَلاَ تَسْأَلْنِى عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف:70) فبمجرد أن رآه يخرق السفينة التى يملكها مساكين يعملون فى البحر نسى ما تعاهدا عليه وقال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (الكهف:71) وحين ذكره العبد الصالح بأنه توقع منه عدم الصبر حين التقى به.. تذكر موسى وقال: {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا} (الكهف:73)، والشيطان يخبرنا ربنا عز وجل أنه يتحين الفرص ويحوم حول الإنسان ليوقعه فى المعصية وقد يتغلب بحيله على الإنسان التقى فينسيه واجبه ولكن حين يتذكر ويرعوى ويرجع إلى ربه لا يغلق الله بابه دونه قال تعالي: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون) ، وإذن فإحياء الذاكرة والبحث الدائب المستمر عن الهنات والسقطات فى حياة المرء سبيل إلى إصلاح الخلل والاستقامة على أمر الله وحينذاك يمكنه أن يحكم على مستقبله من خلال عمله وإخلاصه وتقواه... وكان بعض أهل العلم يقولون: «إذا أردت أن تعلم عند الله مقامك فانظر فيم الله أقامك»
فهل يمكن القول بأنه لا مستقبل ما لم يتصل الحاضر بالذاكرة التاريخية؟

إن الماضى والحاضر والمستقبل بمثابة الشجرة: الماضى هو جذورها، والحاضر هو جذعها، والمستقبل هو فروعها النامية ووصف الشجرة الحية رهن بالتفاعل بين الثلاثة، وبقيام كل منهم بدوره: الماضى كجذر يستمد حياته من جذع الشجرة ويمد جزعها وفروعها إن الحاضر كنقطة وسط يحولها الزمن مع كل لحظة تمر إلى ماض، ينبنى عليها ويستمد منها ما لم يأت من المستقبل. 

شاركنا رأيك وكن جزءًا من مجتمعنا!

أحدث أقدم

نموذج الاتصال